العرّاب الفنيشاشة

زياد الرحباني عبقريّةٌ خارجة عن المألوف..حتى فيروز لم تسلم من إنتقاداته!

صِدَفٌ كثيرة قد ترمي بالإنسان في براثن الشُّهرة، أوّلها وليس بأقلّها أن يولد في كَنَفِ الأضواء. لكن حين يحدث أن تكون زياد الرحباني فلا مجال للصدفة..

ليس سهلاً أن تولدَ من أمٍّ وأبٍّ مشهورَين. إنّما هو قدرٌ اختارك، ولفّ معلقةُ فمك الذّهبية بالكثير من المسؤولية والآمال.

لم تكن حياة العملاق زياد الرحباني بالعاديّة، مثله تماماً. فكيف بكَ أن تحمل على عاتقك إرثاً يوازي فنّ الرّحابنة؟!

قد تنشأ في معالمٍ خالية من الطفولة وأبسط هفواتها البريئة. ربّما هذا ما جعل زياد ينقلبُ على نفسه بل على العائلة بأكملها.

ليخلقَ بذاته حالة فريدة ليست شبيهة برموز الفن. بل تفوّقت لتجمع -عراقة الرّحابنة بنكهةٍ لاذعة من الموسيقى والإبداع الفنّي والمسرحيّ الناقد السّاخر- هو ذلك النّاقمُ على المألوف، الذي “لا يعجبه العجب”..

فحوّل مسرح الرّحابنة بجرأةٍ منقطعة النّظير، من محاكاة المثاليّة في أعمال والده وعمّه، إلى ما يلامس الشكل السّياسي الواقعي جدّاً.

تخرّج زياد الرّحباني إلى الفن برتبة شرف تطابق نسبه الأصيل، وأتقن إيجاد نفسه بميزة الإختلاف.

فغدا الرقم الأصعب في الشجرة الرحبانيّة، بصعوبةٍ لا تقتصرُ على حسّه العالي وفرادة الموهبة، والتأليف الموسيقي الغير مسبوق.. بل تتعدّى إلى غرابة شخصيّته وأسلوبه وتعابيره.

سجّل زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مئة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.

مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:

” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.

شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.

لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.

لمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!

كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.

ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..

هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.

لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!

ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.

بعيداً وباستحقاقٍ جدير بالاعتراف يرتقي إلى مكانة المفكّر العبقريّ، والناقد الأشدّ لذعاً بمختلف ميادين الحياة.

هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..

حتّى فيروز نفسها نالت حصّةً من الانتقاد حين قال بأنّها: “ليست حالة فنيّة، هي حالة عامّة ليس لها تسمية أو صفة”.

أبعد من ذلك، هل من يحظى بنعمة أن تكون فيروز والدته ويقاطعها لسنوات؟؟

حتّى أنّه وجّه ملاحظات لفنّ العمالقة فتذمّر من طول أغنيات أمّ كلثوم، ولم يحبّ عبد الحليم واتّهمه بالتشاؤم.

وعن جيل اليوم إذ بادرت بسؤاله، يجيبك: “أفضّل أن ألحّن لدواليب، على تقديم لحن لنجوم اليوم”.

ويضيف ساخراً: “أعاني البطالة أحياناً لأنني شحّاذ ومشارط”.

ثلاثةٌ وستّون عاماً أتممها زياد الرحباني بجنون العبقريّ، الذي تهون أمامه كلّ الرّموز وتُنزَع عن عروش البعض كافّة الألقاب.

إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.

من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!

وحين يأتي الحديث على ذكرِ المرأة يرحّب بفكرة الزواج رغم فشل زيجاته الثلاث وتفضيله العزوبيّة الطويلة.

ويستطرد قائلاً: أنتقد وأسخر من المرأة بأغنياتي لأنني غير موفّق بعلاقتي معها.

هذا ما يتوافق مع اعترافه بأنّه سبب فشل علاقته مع القديرة كارمن لبّس، ناسباً الأمر إلى عدم قدرته على إحقاق الإستقرار.

غير أنّ حبّه لها ظهرت هويّته في معالمٍ أغنياته لمدّة 15 عاماً.

لطالما استقرّ إسم زياد في موقع الجدل فهو المُشكّكُ في كل ما كان و الذي سيكون.

يبدو لي غريباً بأطواره مفعماً بالمتناقضات.. أقلّ ما تسبّب به لنفسه أوجاع الظّهر، جرّاء جلوسه لما يفوق ال 14 ساعة في عزف البيانو.

تراودني مئات الصوّر علّني أفهم بعض طقوسه وانطوائيّته حين ينكبّ على الإبداع.

ليكشِفَ بنفسه عن بعض أسرار أعماله قائلاً:

” هي بتجي لحالها لعندي الفكرة” مصارحاً بأنّه كتب “كلمات على هدير البوسطة” حين كان لا يزال في المدرسة.

وقصد بعيون عليا تمويهاً لعينيّ فتاة أخرى كانت حبّه الأوّل! حتّى في جديّته تلمس كثيراً من المزاح.

الوسام بعراقة الرّحابنة ليس مجرّد تاريخ.. إنّما هُم إرثُ الماضي المستحدث لمستقبل الكلمة واللّحن، والأداء الموسيقي المرهف.

إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.

وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!

ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.

حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..

أليسار جابر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى